هل نتحدث لغاتنا فقط؟
أم نفكر بها؟
أكتوبر 2021
في مارس 2017 التحقت بمعهد سوجانغ لدراسة اللغة الكورية لقرابة الست أشهر. لم يكن هدفي تعلّم الكورية لذاتها، فإلى ذلك الحين لم أسمع أغنية كي بوب واحدة بحياتي ولا شاهدتُ فلمًا أو مسلسلًا كوريًا قط. فقط كنتُ أريد إتقان حدّ أدنى من اللغة ليسهل عليّ العيش في سيؤول للعامين القادمين، حيث كنتُ قد قُبلت وقتها لدراسة الماجستير (باللغة الإنگليزية).
كانت الكوريّة غريبة عليّ، ما هذه الرسومات التي أراها في لوحات المتاجر؟ لماذا بعضها يُكتب أفقيًا وآخر عموديًا؟! هل هي أحرف؟ أم كلمات؟ لماذا تنتهي الجمل بشكل متشابه؟ زرتُ صربيا وتركيا والتشيك وفرنسا ولم أشعر بهذه الغرابة من قبل.
أتذكر أنّي كنتُ أتساءل -في ذهابي صباح أول يوم للمعهد- كيف لشخصٍ ما أن يُعلّمني لُغةً جديدة، دون أن يتواصل معي بلغة مشتركة بيننا «كاللغة الإنگليزية مثلًا». حيث أنّ المعلم الكوريّ لا يتكلم الإنگليزية إطلاقًا في الفصل. الأمر الذي لم يكن مثل دراستي للإنگليزية أيام المرحلة المتوسطة، حيث يتحدثُ فيها أستاذنا بالعربية للترجمة والشرح.
بدأنا أول حصة في المستوى الأول في الكوريّة. يتكلم الأستاذ ببطء، يُعيد تكرار الأصوات بنفس الرتم 3 إلى 5 مرات ويُشير إلى نفسه حتى فهمنا أنّ مجموعة النغمات التي يُصدرها هي اسمه. وخلال الأسابيع التالية -وبشكل سحريّ- تعلّمنا أن هناك 19 حرفًا ساكنًا، و21 حرف علّة. تكوّن هذه الأحرف باختلافها مقاطع مختلفة، وهذه المقاطع تتشكل بطريقة متنوعة لتبني الكلمات ذات المعاني.
والصدق أنّ كل هذا كان مُتوقّعًا من لغة مختلفة عن العربية، لكن ما غيّر نظرتي تمامًا هي قواعد اللغة. فتركيب الجملة الكوريّة يبدأ بالفاعل، فالمفعول به، فالفعل. بينما العربية و الإنگليزية لا تؤخر الفعل إلى نهاية الجملة في الأصل.
فماذا يعني هذا؟ يعني أنك لا تفهم المقصود من الجملة إلّا في آخر الحديث، فأحمد -تفاحته- أكلها أم لم يأكلها، لا تدري إلّا بآخر العبارة. وهذا مُرهق جدًا على عقلٍ يُفكّر بالعربيّة ويعتاد الإنگليزية.
كما أنّ صيغة الفعل نفسها تتغير، فأنت قد تأمر، أو تتعجب، أو يكون هذا في الماضي أو المستقبل، ربما تنفي أو تؤكد، كل هذا لا تعلمه إلا في نهاية الجملة. وفي حال كان أحدهم يكبرك في العمر، فإنك تُضيف لكل الأفعال مقاطع أخرى للاحترام والتقدير للكبير.
تعلّمك للغة ثالثة غريبة عليك يجعلك أكثر استحضارًا لحقيقة أنّ اللغة قيد، بها فقط نعبّر عن ما يعترينا، ومن خلالها تتشكل أفكارنا، وهي وحدها تُخلّد معارف الأمم وحضاراتها.
هذا الأمر عمّق في ذهني أثر اللغة على إدراكنا، وكيف تشكل اللغة طريقة تفكيرنا؟ سكتاتنا بين الكلمات، وبناء الأمثال الشعبية، وطريقة حكي الطرفة، كيف تكون اللغة بين تفكيرنا وتعبيرنا. فتجد في العربية مرادفات لعناصر الصحراء وطبيعتها ما لا تجده في الروسية. وفي بعض اللغات يكون هناك أزمنة قليلة جدًا لا تتجاوز الاثنين أحيانًا، ومن خلالها يعبّر متحدّثوها عن أيامهم وذكرياتهم وتجاربهم. بل قرأت مرة أن لغة بعض قبائل الأمازون فيها أرقام قليلة - أو معدومة- في نظام لغتهم التعدادي، أو اتجاهات محدودة لوصف الأمكنة، ومن خلال قوالب اللغة هذه يتشكل وعيهم. ولذلك قيل أنّ الأغاني تُعبّر عن الحضارات أكثر من قوانينها.
نحن مُعتادون على الإنگليزية، ولكن تعلّمك للغة ثالثة غريبة عليك يجعلك أكثر استحضارًا لحقيقة أنّ اللغة قيد، بها فقط نعبّر عن ما يعترينا، ومن خلالها تتشكل أفكارنا، وهي وحدها تُخلّد معارف الأمم وحضاراتها.