عن أزمة الكوادر الفنية في السوق المحلي
يناير ٢٠٢١
المتتبع لتفاصيل رؤية المملكة ٢٠٣٠ -وخصوصًا لوثيقة برنامج جودة الحياة- يجد أن هناك توجهًا كبيرًا نحو خلق قطاع ثقافي يُعبّر عن هويتنا ويُصدّر نتاجًا ثقافيًا ننافس به في الخارج. الأمر الذي يجعل جذب عالم الأعمال التجارية إلى القطاع الثقافي ضروريًا لاستدامة هذه المنتجات الإبداعية والثقافية. وذلك من دون نموذج الرعاية -أو المجهودات الشخصية- الذي قد يكون مُتفَّهمًا في مرحلة خلق السوق الأولية، ولكنه على المدى البعيد لا يساعد على نموه واستدامته.
ولعل أحد أكبر التحديات التي تمنع السوق الثقافي المحلي من النمو بشكل صحيح، هو ندرة الكوادر القادرة على التميز إبداعيًا وإداريًا على حدّ سواء لتلبية الطلب الكبير على المنتجات الثقافية المختلفة (إنتاج المحتوى، تصميم البرامج والفعاليات، تنفيذ المعارض والأصول وغيرها).
فالإشكال الحقيقي -قد يكون أحد تبعات نموذج الرعاية القائم منذ عقود- هو تحول المبدع الشغوف بمنتجه إلى إداريّ منهك بسلسلة من الاجتماعات والإيميلات والعروض والنقاشات والميزانيات، والتي مع مرور الوقت تكون أولوية تسبق العمل الإبداعي كونه ضرورة لوجوده.
ما أحاول قوله هنا أن السوق يجب أن يكون محفزًا كفاية للمبدعين للانغماس في مشاريعهم الثقافية بشكل كامل للوصول إلى منتجات ثقافية نوعية. أن يكون هذا هو عمل المبدع الأساسي ومصدر رزقه دون أن ينشغل بوظيفة أخرى في الصباح أو مهام إدارية أخرى تُثقل كاهله. الأمر الذي يشكل هدرًا كبيرًا لقدرات المبدعين، ولمواردنا البشرية الوطنية.
حيث تُعاني الشركات التي تعتمد في عملها على الفرق البحثية والإبداعية من عدم وجود وفرة في العقول المتقدة لإنتاج محتوى أو منتج إبداعي، خصوصًا الملتزمة منها بالعملية والمرونة في تسليم المتطلبات. والأمثلة هنا تتعدد من دكاترة الجامعة الشغوفين بالبحث العلمي والمثقلين بالمهام واللجان الإدارية، إلى صناع المحتوى الذين تحولوا لمدراء بشكل أو بآخر بحثًا عن استدامة شركاتهم أو وظائفهم.. ففي الأخير لن تفكر إذا كنت جائعًا.
وهنا أتذكر حديث عبدالمجيد الكناني -الشغوف بالمسرح- والمدير التنفيذي لشركة إنتاج محتوى حين صرّح بعدم وجود منتجين حقيقين للأعمال التلفزيونية على سبيل المثال، بل هو سوق مقاولات في حقيقته يقوم على العلاقات والجانب المالي دون اعتناء كافٍ بالجانب الفني لهذه المنتجات.
ربما قديمًا إذا كنت تريد الكسب، فإمّا أن تكون "صاحب صنعة" نجار- صايغ- خياط.. الخ أو صاحب أصل معين (بستان، دكان) لتزيد من العوائد المالية لما تفعل. أمّا مهارات الإدارة آنذاك كانت ثانوية لاستخدام الموارد المتاحة بشكل أمثل. بينما الآن أصبحت الإدارة عالمًا لوحده لتعقيد الأعمال التجارية وتداخلها.. وهذا متفهم، لكن لا يجب أن يبتلع هذا العالم ما سواه من مهارات ضرورية للتعبير عن هويتنا وإيجاد منتجات يكون فيها الجانب الإبداعي جوهريًا.
السوق يعاني من وفرة في المدراء، وندرة من الذين يتقنون شيئًا ما!
ولذلك أرى خطوات وزارة الثقافة بهذا الصدد في الاتجاه الصحيح لاستهدافها بناء الكوادر (نجاح على المدى البعيد) وكذلك تركيزها على المنتجات (مكاسب سريعة)، من بينها مسابقة ضوء و برنامج صناع الأفلام كمبادرات تقودها هيئة الأفلام النشيطة.
كما يمكنكم الإطلاع على تقرير الحالة الثقافية، والذي ركزت فيه الوزارة على إبراز أعداد العاملين في القطاعات الثقافية المختلفة (العرض) كما ركزت على نسب الاهتمام لهذه القطاعات من المواطنين (الطلب)، وتبدو فيها الفجوة ظاهرة بشكل كبير.
في المقابل، ربما يكون هناك دور يجب أن تلعبه الشركات الخاصة لإعادة هيكلة طريقتهم في إدارة المشاريع لدعم المبدعين وتوفير الفرص الفنية التي تحفزهم على التطوير. وأيضًا التركيز على بناء الكوادر الإبداعية و الإدارية بشكل متوازٍ لضمان استمرار الأعمال دون الضرر بالجانب الإبداعي التي قامت من أجله هذه الشركات في المقام الأول. والوعي بضرورة الإيمان بمثل هذه القدرات البشرية كأحد أهم أصول الشركة لاستمرارها ونموها.
شركات محلية تساعد في تطور القطاع الثقافي، وتستحق منّا الاحتفاء: